Wednesday, August 21, 2013

قراءة نقدية لرواية إسماعيل فهد إسماعيل في حضرة العنقاء والخل والوفي ٢٠١٣

قراءة نقدية لرواية (( في حضرة العنقاء والخل والوفي ٢٠١٣))

نشرت يوم الأربعاء 14 أغسطس 2013، في جريدة الجريدة

‎كتب: طارق الربعي

رواية {في حضرة العنقاء والخل الوفي} (2013) للكاتب إسماعيل فهد إسماعيل، عبارة عن رسالة طويلة كتبها الراوي منسي بن أبيه إلى ابنته زينب، هي شهادة على زمن {شارك}، ولا نقول {عاش}، فيه منسي تحت مسمى بدون.

‎منسي بن أبيه بطل الرواية يروي حياته كأنها منفصلة عنه وكأنه لم يعشها، فقد قُرر له اسمه ومسكنه وزيجته وطلاقه واسم ابنته وحتى تصنيفه في هذه {التعليبة} القسرية المسماة البدون. فقد عاش كمن يُجرّ من ياقته دائماً الى ما لا يشتهي، ومن خلال سرد منسي لسيرته الشخصية، تحت هذا المسمى، تتكشف للقارئ تفاصيل قضية البدون التي هي محور هذه الرواية.
‎هذه بعض المحطات التي يقف عندها منسي، في المدرسة يكتشف أنه مختلف عن الطلبة الكويتيين وغير الكويتيين ويبدأ سؤال الهوية. منسي في المطار يُعطى جواز مادة 17 المؤقت ليسافر مع {فرقة المسرح العربي} ويصادر جوازه بعد عودته. منسي في المحكمة يتجلّى أمامه ازدراء قانوني واجتماعي في آن.  منسي وقد أوقفته نقطة تفتيش مرعوباً بلا أوراق ثبوتية. منسي وغزو الكويت، ثم إجباره على الاشتراك في الجيش الشعبي، فهَربه من الخدمة وانضمامه إلى المقاومة الكويتية، وأخيراً محاكمته في محاكم أمن الدولة بعد التحرير وسجنه.
 
منسي البدون

‎وربما لو لم تُسمَّ الشخصية في الرواية واكتفينا بكلمة {بدون} لما اختلفت القراءة كثيراً فيكون البديل مثلاً: مشكلة البدون والتعليم، البدون ورخص القيادة، البدون وحظر السفر، البدون والغزو، البدون والجيش الشعبي، البدون وسؤال الهوية، ولكن بأسلوب سردي قصصي. يبدو لي أن منسياً، كشخصية روائية، وسيلة أو مَعبَر للكشف عن قضايا البدون العامة بثقلها النفسي وهمومها اليومية الإجرائية.

‎ولعلي أختلف هنا في ما تفضلت به مقدمة الرواية سعدية مفرح التي كتبت: {في حضرة العنقاء والخل الوفي حاولت أن تتوغل في الصلب النفسي لهذه الفئة من الناس ، من خلال كائن واحد لا يمكن النظر إليه باعتباره النموذج ، بل باعتباره الحالة الخاصة. ربما للإشارة إلى أن كل فرد من أفراد هؤلاء الفئة، حالة خاصة في سياقها البشري وليست مجرد رقم في سياقها الفئوي العام}.

‎ولعل في ما كتبته سعدية مفرح دلالة على ما يشعر به كثر من ضيق تجاه تخفيض صورة البدون، ولو من باب {التعاطف أو أحياناً الشفقة النبيلة}! إلى ضحية نمطية متكررة من دون الالتفات إلى فرادة الحالة الخاصة الفاعلة.
‎فمنسي، بالفعل، حالة خاصة من جانب سيرته الشخصية وتتابع الأحداث في حياته، لكنه يبقى كشخصية غير حاضر، فكونه من البدون هو المعرّف الأساسي له، فهو البدون منسي، وليس منسي البدون، باستثناء مشاهد في الرواية يكاد يخرج منسي فيها من الإطار المتوقع ليظهر فردانيته.

‎يحدث هذا مثلاً أثناء الغزو العراقي حين يفكر منسي بترك كل شيء وراءه ليهاجر إلى أوروبا عبر العراق، تاركاً أمه وكل ما يعرف، لكنه يتراجع إلى النموذج السلبي (بمعنى غير الفاعل)، وبهذا تكون صورة منسي تكريساً للنموذج وليست تجاوزاً له.
‎ولكن منسياً ليس سلبياً بالمعنى المطلق، فإذا سألنا: أين تكمن الفاعلية في شخصية منسي؟ أي قدرة منسي على أن يكون فاعلاً، رغم ظروفه الخاصة جداً ، وليس مجرد مفعول به، فلن نجدها في تتابع أحداث الرواية وأثرها عليه، إنما فاعلية منسي حاضرة في فعل الكتابة، فرغم تحكّم ظروفه الخاصة به، كان يدّخر فعلاً واحداً كبيراً من خلال الكتابة لابنته زينب.

‎ليست زينب مجرد ابنته التي لم يرها ولم تعرفه، فهي رمز لوطن لا يعرفه ولذاكرة شعبية قد أسقطته، وزينب هذه لا تدري أي شيء ولن تدري، لولا شهادة المنسي، فلا بد من هذه الشهادة حتى يبقى المنسي بن أبيه في الذاكرة.

‎من الداخل والخارج

‎سيظهر لقارئ الرواية أن الكاتب اسماعيل فهد على اطلاع دقيق بقضية البدون وبوقعها اليومي على أفرادها، لكن يبقى طغيان هذا التصريح {بالحالة البدونية}، إن صح التعبير، علامة على أن {في حضرة العنقاء والخل الوفي} شهادة لا بد من أن تكتب من خارج مجتمع البدون لطرحها إشكاليات البدون بطريقة مباشرة، ولاستخدامها لـ{نحن البدونية} التي لم تُساءَل بالشكل المستحق.

‎رغم حذر الرواي في مطلع الرواية من قبول مسمّى {بدون} كاسم نهائي لأفراد الفئة كقول منسي: {في سياقنا يولد الطفل، يكبر وإن حاز وعيه ألمّ بالذي يدور، واجه أبويه، لماذا أنا} (صـ37)، فإن هذا المسمى، في أحيان أخرى، هو المعرّف الرئيس لمنسي، فنقرأ مثلاً: {هناك نوع متفرّد لشيخوخة تصيب البدون دون غيرهم} (ص 122)، أو {أن البدون عامة يبلغون سن الحلم مبكرين} (صـ109)، بالإضافة إلى الشرح المسهب لدهاليز قضية البدون القانونية، والمقاربات بين اضطهاد المرأة واضطهاد البدون، مثل: {ليس البدون وحدهم ضحايا ظلم وانكار وجود، المرأة بدون نوع ثان} (صـ74)، فهذه الوصفية لحالة البدون كحالة كلية جامعة تهدد فرادة شخصية منسي وترجعه إلى أسر النموذج.

‎سماء مقلوبة

‎لو أجرينا مقارنة سريعة مع رواية أخرى كتبت من داخل المشكلة كرواية ناصر الظفيري {سماء مقلوبة} (1995)، سنجد المسألة مغايرة كلياً. تدور أحداث {سماء مقلوبة} في عشيش الجهراء حيث يعيش سليمان عبدالله طفولة مضطربة، بين الفقر والجريمة ومن ثم الاغتراب في اختلاطه مع المحيط الطلابي في جامعة الكويت، فيقرر، في آخر الرواية، أن يهاجر تاركاً كل شيء وراءه على أنه هو ابن العشيش وابن التجربة الجمعية، على عكس منسي الذي كانت ظروف حرمانه من الجنسية خاصة،فسليمان عبدالله شخصية حاضرة بقوة ولها صوتها خارج الأطر النمطية لصورة البدون النموذج ، وأن القارئ ليقرأ الرواية من أولها إلى آخرها ولا يجد كلمة {بدون} مرة واحدة، وأن قارئاً عربياً لا يعرف شيئاً عن قضية البدون سيقرأ قصة سليمان عبدالله فحسب، ذلك الصبي الذي ولد من رحم الأسئلة الصعبة، وإن لم يصرح الظفيري بهذه التسمية القسرية {بدون} فإنه، بدلاَ من التصريح، يلجأ الى المقاربة.

‎مثلاً يصف الراوي سليمان عبدالله الظهيرة قائلاً: {الظهيرة ولا شيء في انتظارنا سوى فراغات، لا حدّ لها، وحيل لا تتغلب علينا، نضب الماء في عروق الأجساد وابيضت ألسنتنا، تشققت شفاهنا، تعثّر الكلام. الظهيرة، ولا شيء يغرينا بالتوقف، فآثرنا أن نستمرّ قاطعين كمائن الظهيرة إلى الظهيرة. نلتقي لا أحد سوانا. نحن الفريق الذي تكوّن بمحض الصدفة الباهتة وتعايش كنتيجة حتمية لأقدار سابقة، منساقاً أمام أقدار لاحقة} (صـ20)، فبدلاً من قبول التسمية على ما هي، فإن الكاتب يضعها محل تساؤل ورفض الفريق الذي تكوّن بمحض الصدفة الباهتة.

‎ومن يقرأ مقدمة رواية {سماء مقلوبة} لسعدية مفرح، أيضاً ، سيلحظ هذا التردد في التصريح بـ{نحن البدونية» وإبقاء مسافة ندية مع مصطلح {البدون}، تكتب سعدية مفرح:
‎{والبدون كما تسمى المشكلة، وكما يسمى أهلها في الكويت، مصطلح يدل على عدد كبير نسبياً من المواطنين الذين يعيشون بدون جنسية تثبت انتماءهم إلى وطنهم قانونياً،لأسباب ملتبسة عدة فاقم من وطأتها الثقيلة عليهم وعلى الكويت، مرور السنوات الطويلة عليها منذ صدور قانون الجنسية في بداية الستينات وحتى الآن بلا حل حقيقي}.

‎ولعل أي قارئ لأعمال أدباء آخرين من فئة البدون سيلحظ هذه المواربة في قبول التسمية، والبحث الدائم عن بدائل واستعارات متتالية لتسمية الذات، بدلاً من قبول التسمية المفروضة بفعل القوة من الآخر، وربما تفسر هذه الحاجة الملحة للاستعارة النشاط الشعري المميز لأدباء البدون، في المشهدين الثقافيين الكويتي والعربي.

‎يقول المفكر جاك رنسير: {نحن المعذبين في الأرض}، جملة لا يمكن أن ينطق بها أي معذب فعلي في الأرض، إنما لا بد من أن تكتب عنه. وهذا قد ينطبق على الكتابة عن البدون من الخارج وتقديمهم كبدون فحسب. في المقابل، {الكويتيون البدون} هذا المسمى الذي بدأ يستقر بين نشطاء البدون أو الكويتيين البدون، يؤكد تعقيد مسألة التسمية الذاتية، وإصرار البدون على خلق فضاء خاص للتسمية}.

‎المسكوت عنه

‎يميز الرواية وضع قضية البدون في إطارها العام، وهو المنسي أو المسكوت عنه في تاريخ الكويت الحديث عموماً. ولعل أبرز معالم ذلك المسكوت عنه الغزو العراقي والتحرير، وما جاورهما من أحداث تخصّ البدون والفلسطينيين.
‎ عندما عرض مسلسل في رمضان عن فترة الغزو العراقي تكشّف حجم المكبوت في الذاكرة الوطنية، عبر التفاعل غير المسبوق مع أحداث المسلسل في مواقع التواصل الاجتماعي.

‎يغربل الكاتب اسماعيل فهد هذا المكبوت، بشكل جاد، في عملية مكاشفة نفسية لمرحلة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، قلّ ما دار الحديث عنها. ثلاث قضايا تحديداً هي محاور ذلك المسكوت عنه: إجبار بعض البدون على الانضمام إلى الجيش الشعبي، اشتراك بعض البدون في المقاومة ضد المحتل، الدور الإيجابي للفلسطينيين المقيمين أثناء الغزو.

‎الرواية في نصفها الأول تذكّر القارئ بالحضور العربي في الكويت ما قبل الغزو، إذ تنظر إلى المجتمع في الكويت من دون الانكفاء عن المواطن الكويتي (هذه النظرة سادت بعد الغزو)، فالكاتب يلمح لنوستالجيا خاصة لمرحلة تعددية عروبية، يتفاعل فيها الكويتي والبدون والعربي. فهذا منسي يسكن وأمه في ملحق في النقرة، يجاوره الرسام ناجي العلي الذي يطلق على منسي لقب {حنظلة البدون}، و{فرقة المسرح العربي} التي يعمل فيها منسي تغادر إلى دمشق لعرض مسرحية لسعدالله ونوس، في لفتة إلى هذا التفاعل العربي، وينعكس هذا التفاعل على مقروئية الرواية، فالرواية لا تنكفئ عن القارئ في الكويت، رغم خصوصيتها، فهي موجهة إلى القارئ العربي، وربما هذا ما يميز جيل الكاتب اسماعيل فهد، تجربته وانتماءه غير المتكلف إلى أفق عربي، إن صح التعبير.

‎أما في النصف الثاني فيختل التوازن الاجتماعي مع أحداث الغزو العراقي، وتبدأ عهود، زوجة منسي الكويتية، بالتشكيك المطلق بولاء زوجها البدون، ويبدأ الآخر يأخذ شكلاً قطعياً على شكل كل ما هو غير كويتي. هذا التحول سيجعل القارئ داخل الكويت يتفاعل في النصف الثاني من الرواية، بشكل أكبر، مع المواضيع المحظورة في الذاكرة الجمعية. وموضوع النصف الثاني من الرواية مهمّ، لما فيه من دعوة إلى مراجعة ما آلت اليه الهوية الوطنية الكويتية من التقوقع والانكفاء على 
محيطها المباشر.

خاتمة

‎الرواية، إجمالاً، مهمة جداً، لما تطرح من موضوعات شائكة ومهملة، إلا أن التعامل مع موضوع البدون، تحديداً، ما زال في طور ما أسميه {استنطاق البدون}، فمع بروز قضية البدون، على الأصعدة كافة، في الكويت، أخيراً، بسبب تحرك وفاعلية البدون أنفسهم على المستوى السياسي، يبقى لنا أن نسأل: هل ما زالت مجدية مسألة استنطاق البدون؟ لا بد من تعاطٍ مدرك لهذه الفاعلية، يتجاوز الاستنطاق إلى ما يشبه الإنصات إلى ما يقدمه البدون على الأصعدة كافة لا سيما الثقافية.

No comments:

Post a Comment

تعليقات