Thursday, April 4, 2013

احتفاءات واكتفاءات



أتذكر ولعي واحتفائي عام ٢٠٠٨ برواية رأس النافورة للكاتبة الأميركية -من أصل روسي- آين راند. وهي رواية تقع في ٨٠٠ صفحة، أولعت بها حينها لأنها كانت تشبهني، تحكي عما يدور في دواخلي من فكرة فردانية الإنسان المكتفي بموهبته وقيمته الذاتية ورفضه الدائم لأن يصبح عادياً ومكرراً.  أتذكر أيضاً كيف أن الـ٨٠٠ صفحة كانت غير محكمة الكتابة متوزعة بين أساليب الكتابة الروائية والكتابة الفلسفية والكتابة الوعظية.  ولكن كل ذلك لم يمنعني من الاعجاب والانبهار التام بالرواية وبالكاتبة معاً.  بعد اتمام الرواية وجدت مجموعتها الكاملة في احدى المكتبات واقتنيتها كلها!

أتساءل الآن: بماذا كنت أحتفي؟ بها؟ أم بجهلي بالرواية كجنس أدبي؟
لقلة خبرتي مع الرواية حينها، ربما تساهلت مع نبرة الكاتبة الوعظية الحاسمة التي تلقم القارئ "الحقيقة"، الخير المحض بيّن والشر المحض كذلك، ولعل هذا الحسم يفقد الرواية أهم خواصها ألا وهي تعدد الأصوات ووجهات النظر، أي أن الرواية هي المجال الحيوي لتصارع "الحقيقة".

وبعيداً عن الرواية، فما يزيد من شعوري بالخجل من احتفائي  بتلك الكاتبة، هو ما قرأته في كتبها الأخرى. أتذكر أني قرأت لها في كتاب آخر بعنوان (أسئلة وأجوبة) عن أحقية وجود دولة اسرائيل، وذلك بسبب تحضر الاسرائيليين وتفوقهم التاريخي والحضاري (وربما البيولوجي) على برابرة لا يستحقون أرضاً ليعيشوا فوقها، فالدفاع عن اسرائيل وحقها في البقاء ليس إلا انتصاراً للانسان الفرد المتحضر الحر! (أحاول أن أؤمن بنظرية فصل الكاتب عما يكتب، لكني أفشل دائماً)

وفي موقع آخر بالكتاب تتحدث الكاتبة عن مفهوم الخير والشر في الأدب فتقول بما معناه: ان ما كتبه ميغيل دي سرفانتس (دون كيخوته) عمل شر محض! لأنه يتهكم بـالأنا البشرية (الايغو) القادرة على فعل كل شيء برأيها، وعلى الوجه الآخر مسرحية سيرانو دي برجراك لإدموند روستاند التي تعتبرها خير محض، لأن بطلها سيرانو لا ينكسر وينتصر للأنا أيما انتصار، وبذلك تتحول عملية النقد الأدبي عندها أيضاً الى سلسلة من القواسم والحواسم على شكل "الفرمانات" العسكرية.


‫***‬

مثال آخر هو ما حصل لي مع أدونيس في كتاب الثابت والمتحول، عنوان مخيف وأربعة أجزاء من التحليل للتراث العربي (الشعر-الشرع-الفلسفة-علم الكلام-الحركات السياسية) واحتفاء لا يحد مني بهذه العبقرية! والاحتفاء لا يأتي جزئياً، بل بالجملة، فالكتاب والكاتب وكل ما يقول تماماً كما هو الحال مع آين راند. ولعل هذا النوع من الاحتفاء راجع الى تطرف القارئ المبتدئ.

بعد سنوات من اتمام قراءة الكتاب سنحت لي فرصة لحضور أمسيتين لأدونيس في لندن عام ٢٠١٢، أمسية شعرية وأخرى ندوة عن الصوفية والسريالية، كانت مناسبة لي لتقييم موقعي الآن بعد أربع سنوات من اتمام قراءة الثابت والمتحول، بعد أن حضرت الأمسيتين كتبت انطباعاتي يومها:

أول نشاط كان أمسية شعرية لأدونيس...
‎دخل، أو الوصف الأنسب هو "حضر" أدونيس الى القاعة الرئيسية دون أن يبتسم. وبدأ بإلقاء قصيدته مباشرة بنبرة النبيين، أولئك المصطفين من رب الحداثة ذاته، قرأ ثلاث قصائد، قصيدتان طويلتان وأخرى قصيرة جداً.  قصيدة واحدة استمرت لخمسة عشرة دقيقة متواصلة، خمسة عشر دقيقة من محاولة اللحاق به دون جدوى.  تحولت القاعة فجأة الى سجن، والإلقاء المسترسل الى ضرب من ضروب القمع.  أتذكر أنه كان قد حمل سنبلة الوقت بيديه كثيراً وكان رأسه برج نار أيضاً. ولم أكترث لأن رأسي لم يعد يحتمل.

الندوة الأخرى حملت عنوان جاذباً جداً: (التصوف الاسلامي والشعر). أقنعت نفسي بالحضور للاستماع مرة أخرى رغم تجربتي الأولى مع الأمسية، قلت: أنا أحب أدونيس المنظّر ولا أحب الشاعر أدونيس، ولأني قد قرأت (الثابت والمتحول) و(الصوفية والسوريالية) وكتب أخرى له أردت أن أتفاعل مع "جديده" في لندن 2012. ولكنه للأسف لخص الثابت والمتحول ولخص الصوفية والسريالية كما وردا في النصين الأصلين.

وددت لو أني كنت حينها أقلب قنوات التلفاز واستمع اليه في مقابلة مع أحد المذيعين البلهاء بدلاً من الجلوس في كرسي في قاعة محترمة دون جهاز الريموت.  للجلوس والاستماع مقام مختلف، غالباً الجلوس والاستماع في لندن لمن يستحق.  ما أقصده أن حديثه كان ذا طابع تلفزيوني، كان يبحث عن المانشيت، المقولة الرنانة. يصفصف الكلام متجاوزاً معناه الحقيقي. تغلب الشاعر المحتفل بذاته وبثباته على العارف القابل للتحول، وقد بدا احتفاله الأول بالمتحول كأنه تأصيلاً لثابته.

يقول مثلاً "الشرع والشعر لا يجتمعان." بتفسيره التبسيطي عن مفهوم العام والخاص ولكن يعجبه هذا اللعب، أو مثلاً مقولة أخرى وقد سبقها بالتنبيه الآتي: "اعلم أن هذا الكلام لن يعجب الكثيرين" (وهذا حتى نستعد نفسياً نحن الجالسين المتخلفين) ، فيقول: "الوحدانية بداية الانحطاط الانساني".  مدد يا نبينا. هكذا وبكل بساطة.  حسمها لأن الوحدانية بمنهجه المطمئن تنعكس على جميع نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والخ..

يقول أيضاً  "الاسلام لا يعطي المرأة حقوقها"، ثم يلتفت ويقول
بركاكة منهجية مبتسماً وبنبرة المطمئن الى نتائجه: "ولكن اسمعوا ما يقوله المتصوف عن المرأة.. المكان الذي لا يؤنّث لا يعول عليه -وسط شهقات الجمهور-." لو أن ما يقوله في قصيدة لاستوعبته، ولكن هذا الطرح التبسيطي في مقام الجلوس؟  والله لو أني أكتب هذا الكلام في بحث في مرحلة البكالريوس لأرجع الدكتور البحث لي وأمهلني فرصة أخيرة.

انها آفة الإيهام. الإيهام بالنتائج الكلية المسلوقة وبالشَعَر الكث ورخامة الصوت، وعالمية الحضور. كان الايهام واضحاً ليلتها.

أعلم أنني قد بالغت فيما كتبت ولكن لا بأس، أظنها انطباعات تتحمل ذلك.
-انتهى-

كانت هذه المسافة بين احتفائي بقراءتي الأولى لأدونيس والعودة اليه مجدداً شاهدةً على تحولاتي  كقارئ، وهذا التحول ليس من نكران الجميل لما قرأت واستفدت يوماً ما، إنما هو نكران لحالة احتفائي أنا حينها. كنت أحتفي بجهلي التام بالتراث والشعر العربي وأبسط قواعد الربط المنطقي. 


*** 

 أكثر ما يرعبني هو أن تستقر ذائقتي على شيء ما، فأردد في الخمسين ما حفظته في العشرين، وأكون من أولئك المحتفين بالاكتفاء.   

No comments:

Post a Comment

تعليقات