Wednesday, June 17, 2015

العودة الى الفصل -مدرساًـ

فيما أنا أتوجه الى الفصل -مدرساً في الجامعة هذه المرة-، توقفت أمام مرآة قريبة، أطلت النظر وتساءلت “كيف وصلت الى هنا”؟ كيف انتقلت الى الضفة الأخرى؟ من أنا لأقيم الطلبة؟ وهل هذا اللقب الذي ألصقوه بي (أستاذ) يكفي؟ وماذا أتوقع منهم؟ وكيف أزن توقعاتي؟

  ثم عدت الى تجربتي طالباً في الجامعة لأقيس، أي طالب كنت ؟ وما الذي بقيَ معي من دراستي للتسويق في كلية التجارة في جامعة انديانا بعد هذه السنوات؟
 

  * * *

 الحضور والغياب في الفصل مسألة تتعدى السجل، فأغلب مواد الجامعة كانت تتطلب الحضور الإلزامي. ولكن ما معنى أن أكون حاضراً وأنا في كل مكان عدا الفصل؟ أستطيع القول واثقاً بعد عشر سنوات تقريباً بأنني لا أتذكر شيئاً ذا قيمة من دراستي للتسويق أو الإدارة بشكل عام

يقال بأنك اذا أعطيت العلم كلك أعطاك بعضه، ففي دراستي في كلية التجارة كنت أعطي العلم أقل من بعضي ولم أرد مقابلاً . وذلك لأني لم أهتم قط بالتجارة لا على المستوى النظري ولا العملي، ولعلي أقول بعد مرور هذه السنوات أنه لم يحركني أو يشدني أي موضوع يتعلق بالتجارة إلا تكلفاً. فالمجال أبعد ما يكون عن اهتماماتي (التي لم تكن ”عملية“ أبداً)، ولكني في تلك السن ظننت بأن كل الطلبة مثلي، وأن الدراسة واجب اجتماعي علي القيام به، أؤديها وكأنها عقوبات متتالية
.
 
أكثر ما نفرني من الدراسة في كلية التجارة هو الجانب العملي. إختزالات وتسطيحات وقفز فوق الأسس النظرية إلى الممارسات العملية الدبقة، كنت أشعر بأني في قطار متسارع، تريده أن يقف لحظة ولكنه لا يأبه. كأنك مسمار في آلة كبيرة لا ترحم. كنت أتخيل أن الكلية تتعامل معنا بطريقة التصنيع بالتجميع (أسمبلي لاين)، نضع أقدامنا في بداية شريط التصنيع حالما نقبل ثم يتحرك الشريط سنة بعد سنة فيقومون بتركيب القطع علينا قطعة قطعة، حتى نخرج آخر الشريط منتجات نهائية متماثلة جاهزة لمنافسة سوق العمل. من أمثلة الانهماك في الآلة ما درسونا في مادة (سيكولوجيا المشتري)، وهي مادة تنطلق من ركيزة أساسية: (كيفية تحويل المستهلك من حالة أنا أريد الى حالة أنا أحتاج!) وهكذا كان من المفترض أن نبتلع هذه النظرية، ثم نتسارع الى ضرب أمثلة في نجاح الشركات في بلوغ هذه الغاية النبيلة! والحق أن الصورة لم تكن واضحة لي أيامها، ولكني كنت متأكداً حينها بأن شراً ما مضمر في نظرية كهذه. فهناك في العالم من يحتاج فحسب ولا يريد شيئاً ويموت من البرد والجوع، ونحن نكرس حياتنا كمسوقيين لزيادة احتياجات المجتمع الإستهلاكي. وهدفنا كمسوقيين تحت التدريب أن نطعم دودة الاستهلاك هذه، ولا يهم أن تفقع أمعاء المجتمع.
 

أمر آخر نفرني من جو الكلية وما زال هو روح المنافسة الخاوية، التي لا تحمل معنى أكثر من الولع بفكرة المنافسة ذاتها، كنشاط يومي ضروري في الحياة الرأس مالية، وآخر ما يسأل عنه علامَ نتنافس؟ ولمَ؟ أي اختناق كنت أشعر به فيما كان يسمى “عمل جماعي”، لا مناص منه، ففي العمل الجماعي الكل يكره الكل، كره مؤسساتي. نكون أربعة على الطاولة “نعمل” سوياً في مشروع ما، وسرعان ما يقوم أحدنا لدقائق يبدأ الآخرون بنهشه: “أسمعتم ما قال؟ “ “لم يحسن فعل كذا وكذا” يرجع فيستمر العمل وتستسمر المنافسة، وكلمّا ذهبتُ الى الحمام سمعت هسيس الذئاب خلفي، والحقيقة أني كنت أستحق أكثر ما قيل عني لأني كنت أقلهم اهتماماً وتفاعلاً. في إحدى مواد التخصص قدمت ومجموعتي عرضاً لمشروعنا الخاص بتسويق الشاي الأخضر ماركة ليبتون، وعندما جاء وقت الأسئلة سألتني المحاضرة عن مسألة تقنية (كنت أعرف إجابتها) وقبل أن أهم بالجواب نطت ذئبة من ذئاب المنافسة لتسكتني لو كان بإمكانها أن تنحرني وتسيل دمي أمام الفصل قرباناً لإله المنافسة لفعلت منتشيةً.

غير ذلك لا أتذكر أي تأثير شخصي من أساتذة الكلية إلا مدرس القانون التجاري (مقولته عن التاريخ المقتبسة من كرت فوينغت) ومدرس الاستراتيجيا (ديفيد روبنستاين) الذي كان يؤدي عروضاً مسرحية لا تنسى في قاعة المحاضرة. ولكن النَفَسَ العام يشعرك بأنك في مؤسسة تجارية (كما هي الحالة فعلياً) فما بين طالب واستاذ كالذي بين مشترٍ وبائع، -سلم واستلم- ، ومثال على هذا ما قاله مدرس التمويل يوماً لنا بعد أن رأى بعض الطلبة في الفصل لا يولون اهتماماً كافياً لما يقول: ((أتعلمون؟ أنا أضيع وقتي معكم الآن، لعلمكم يمكنني أن أحصل على راتب مضاعف لو كنت أعمل كمستشار في إحدى الشركات الأخرى، فاستمعوا جيداً لما أقول)) ولا زال وجهه التعيس ماثلاً أمامي وهو يتفوه بجملته تلك بنبرة المهزوز

عل أمراً اخرَ حدث بعد تخرجي يعكس جو الكلية، وهو انتحار استاذة المحاسبة الادارية. كانت جذابة مليئة بالحياة، دخلت علينا يوماً حاملة آلة (تقطيع أشجار) كهربائية هائلة لتشرح لنا جزئية في المحاسبة. وفي عام ٢٠١٢، اي بعد ٧ سنوات من تخرجي وجدت جثتها ملقية على الأرض بعد سقوطها منتحرة من أحد مباني مواقف السيارات في مدينة بلومنغتون تحت تأثير الكحول. رحمها الله. الحقيقة أن هذه القصة ربما لا تعكس شيئاً إلا تحاملي على الكلية

 * * * * *

ولكن حالة الغياب الذهني عن مواد التخصص لم تلزمني في مواد أخرى بعيدة عن التخصص، فلا أزال أتذكر بعضها بكل تفاصيلها،

مبادئ الكتابة في الانكليزي:ـ

في السنة الأولى سجلت لمادة مفروضة على كل طلاب السنة الأولى. وهي مبادئ الكتابة الانكليزية، English Composition. وقد أهلني الاختبار في بداية السنة لحضور فصل المتحدثين باللغة الأم، فكنت أنا وشاب هندي آخر من دبي وسط مجموعة من الطلبة الأمريكان. كانت المحاضرة طالبة دكتوراة جميلة من احدى ولايات الجنوب. لا أذكر اسمها ولكن بامكاني رسم ذلك الوجه السمح والشعر القصير. وقد كان الكتاب المقرر عنوانه (Signs of Life in the USA)، مجموعة من المقالات حول المظاهر الثقافية في أمريكا. مقال عن ظاهرة لبس الجينز، وآخر عن صورة المرأة في الاعلانات، ومقال عن المدلولات التاريخية لأسماء سيارات الشركات الامريكا (اكسبديشن، اكسبلورور، شيروكي). هل هذه المواضيع الماتعة يسمونها دراسة أيضاً؟! فقد كنت أقرأ وألخص وأفتش عن صديق أحدثه عما قرأت. لا زلت أتذكر البحث الذي قدمته وهو بعنوان صورة العرب في هوليود، اعتمدت على كتاب لجاك شاهين بعنوان Reel Bad Arabs، وبعد التسليم طلبت المحاضرة أن أقرأ البحث أمام الفصل بصوت عالٍ. أثرت فيّ هذه الطالبة المحاضِرَة، أشعرتني بأن ما أقوم به مهم وجدير بالمشاركة، ولم أقدر عمق هذا التأثير إلا بعد دخولي عالم التدريس. 



مادة أخرى سجلت فيها في عامي الثاني بعنوان مبادئ الفلسفة، ولكني انسحبت منها بعد شهر تقريباً لا أذكر لأي سبب تحديداً. كانت محاورة فايدون لافلاطون محور الاسابيع الأولى، ولا أزال أتذكر هذه المحادثة الساحرة وما تركت من أثر شخصي في: سقراط محكوم عليه بابتلاع السم، يجتمع حوله أصدقاؤه فيعزيهم بمنطق الفلاسفة. الموت منية الروح، تحررها من قفص الجسد والحاحاته، فتسبح في فضاء المعرفة. حركني وألهبني، لمس أسئلة ملحة في كياني، أردت أن أجلس في مقهى وأتحدث عن سقراط، جرأته ورؤيته. ربما أردت أن أكون فيلسوفاً حينها، انسحبت من المادة ولكن سقراط وجليسه افلاطون لم ينسحبا أبدا، أعدت قراءة فايدون ومحاورات أخرى قبل عامين ولا زال التأثير ذاته. ولكن الكتابة عن الماضي تضفي سراً ربما لم يكن موجوداً بتلك الجذوة التي تحملها الكتابة الاستداركية

.
المادة الأخرى التي أتذكرها كانت بعنوان قصيدة البردة عبر التاريخ للبروفيسورة سوزان ستيتكيفيج. مادة تأخذ تاريخ القصيدة من كعب بن زهير الى بردة شوقي مروراً بالبوصيري. ما زلت أتذكر النسيب والمديح والرحيل، والبوصيري الذي كان مخفياً ومجهولاً تماماً لي. أمن تذكر جيران بذي سلم مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم، أم هبت الريح من تلقاء كاظمة أو أومأ البرق في الظلماء من إضم. استدرجتني “كاظمة” التي أشعرتني بنوع من فك الاغتراب مع القصيدة. ولكني لم أواظب على الحضور، وقد كلفني ذلك درجات كنت أريد أستردادها، وكانت طريقة بروفيسور ستيتكيفج للحصول على علامات اضافية (بونص) هي كتابة تخميسات على قصائد كعب بن زهير أو النابغة أو البوصيري أو شوقي، أو قراءة وتلخيص بعض القراءات الاضافية ككتاب زوجها ياروسلاف ستيتكوفيتج (صبا نجد) الذي قالت لي بأن من يقرأه بحاجة الى ثلاث شهادات دكتوراه على الأقل ليفهمه
.
اللافت، أنني عندما قررت استكمال دراسة الماجستير في الأدب بعد ٧ سنوات من إتمام مادة بروفسير ستيتكيفج كتبت لها رسالة أذكرها بنفسي طالباً منها أن تكتب لي تزكية لبرنامج الماجستير، وقد فعلت شاكرة. واكتشفت لاحقاً بأنها قد طبعت مقرر المادة في كتاب والكتاب يدرس لطلبة الماجستير في جامعتي. فأي تسهيلات مباركة


ربما يتبع!ـ

No comments:

Post a Comment

تعليقات