Thursday, August 31, 2017

متخسسو الخليج

متخسسو الخليج


قبل سنتين، وبعد أن أنهى الكاتب الليبي ابراهيم الكوني محاضرته في جامعة ساوس-لندن، قام أحد الحضور معلقاً بلغة عربية مكسرة وبنبرة واثقة جداً، بأن ثمة تشابه كبير بين ما طرحه الكوني في محاضرته وبين الكتاب الأخضر للقذافي، فقاطعه الكوني سائلاً: هل قرأت أي من أعمالي؟ فرد السائل: لا لم أقرأ لكنني أستنتجت ذلك مما طرحته اليوم، ثم أردف: أنا أساساً “متخسس” في الشؤون الليبية، وحينها انفجر الكوني: أنت متخسس! والله هذه كارثة ! واستمر الكوني في هجومه بلا هوادة حتى غضب المتخسس وخرج من القاعة.

ليلتها خرجت من المحاضرة نشوان، كان رده النيئ المباشر الوقح  بعيد عن الحصافة الأكاديمية الزائفة، التي لطالما منعتنا من تسمية الأشياء بمسمياتها عندما نواجه بوقاحة المتخسسين ذاتهم. فهذا الطالب المتخسس في الشؤون الليبية لا يمكن له أن يرى الكوني إلا كعينة انثروبولوجية، وليس مهماً له أن يقرأ أعمالاً روائية للكوني أو لأي شخص ليبي حتى يحكم عليه، فالاطارات المعرفية في ذهنه جاهزة، فبامكانه فهم الشعب الليبي كله من خلال قراءة الكتاب الأخضر.  فالكوني مهما حاول في تنظيراته الأدبية والفكرية فهو لأؤلئك المتخسسين مصدر معلومات ليس إلا، ولا يمكن أن يكون نداً ومصدراً للمعرفة.

والمتخسسون من جنس الطالب ذاك يتكاثرون بشكل أكبر في دراسات الخليج، فدراسات الخليج فيها وفرة مالية وهي من المناطق التي من الممكن عملياً أن يدرسها الباحث الغربي ويستقر فيها بعدما أصاب العواصم العربية الأخرى ما أصابها، ولا يخلو هذا الاهتمام المبالغ به في المنطقة من عقدة الخواجة التي ما زالت تؤثر على الكثير من الممولين والفاعلين في الخليج، ثم الأهم من ذلك وهو الافتراض المضمر في الكثير من البحوث التي تتناول الخليج على أنها منطقة سهلة الفهم والتشريح، فهؤلاء سنة وشيعة، وبدو وحضر، ومؤخراً أوغلوا في التشريح، فهناك من هو متخسس في الخليجيين من أصول أفريقية، والنجديين، العجم الشيعة، الهولة إلخ. وهي كلها محاولات حثيثة غير بريئة لرسم خارطة تكشف المنطقة بشكل كلي، والسؤال هو: تكشفه لمن ولأي سبب؟  وهناك تيار آخر يفترض أن الخليج كتلة رملية هلامية سيالة، خليط كوزموبوليتاني عجيب، ظاهرة تاريخية استثنائية طارئة، تتأثر بكل شيء ونادراً ما تؤثر على أحد. ولا أدل من ذلك إلا عدم جدية الكثير من الباحثين الذين لا يتقنون اللغة العربية قراءة وكتابة ولا يعتمدون إلا على المصادر الغربية أو المترجمة.

فأنتَ تجلس في هذه المؤتمرات المقامة في بريطانيا وأمريكا وتسمعهم يتحدثون عنا (أي المجتمع الخليجي)، وكأننا لسنا في الغرفة معهم، كأننا فصيل بشري نادر من زمن آخر،  ولا تخلو النبرة الأكاديمية من التندر على سذاجة المجتمعات التي ما زالت تتبنى الأطر الوطنية والقومية والدينية.  والأمثلة عديدة بعضها مباشر وآخر متستر بالديباجات الأكاديمية والكلام الكثير قليل البركة.  أذكر ورقة قدمت عام ٢٠١٤ لأحد الانثربولوجيين الأوربيين عن الهوية الوطنية الاماراتية، حكى لنا عن منهجيته ونظريته الفذة، فالرجل قام (بالملاحظة المرئية) لعينة من سكان امارة رأس الخيمة في يوم العيد الوطني، بعد يوم كامل من الملاحظة الانثروبولوجيا الدقيقة استخلص نظرية عبقرية: الهوية الوطنية في الإمارات تنقسم إلى ثلاث أبعاد: الشارع (حيث يحتفل الإمارتيون المواطنون)، الرصيف (حيث خليط بين الوافدين والمواطنين)، والحدائق العامة (الوافدون). ثم بكل ثقة يتبجح بنبرة الباحث المتأكد من نظريته.

ولا يزيد الطين بلة إلا جماعتنا، الذن متى ما أتاهم باحث -طبعاً أمريكي أو أوروبي- تجدهم يفتحون له الأراشيف ويفصحون له عن كل شيء، تفضل تخسس بنا كما تريد! وبعض الأكاديميين من المنطقة لو جلست معهم لا يردون عليك إلا باللغة الانكليزية (اللهجة الأمريكية بشكل خاص)، إذا حدثتهم بالعربية نفروا منك ومن فظاظتك (عربي كخ)، فاللغة التي تفرضها السوق الأكاديمية للنشر والتقدم الوظيفي تفرض أحياناً عليهم أن يقوموا بإعادة تدوير الأطر المعرفية التخفيضية ذاتها والثنائيات الكسولة، يتعاملون مع المنطقة بالروح ذاتها وكأنهم لا يسكنونها ولا يرتبطون بها مصلحياً ولا معنوياً. وفي السنوات الأخيرة تم استيراد تلك المؤتمرات المقامة في بريطانيا وأمريكا حول دراسات الخليج إلى المنطقة، وقبل فترة قصيرة حضرت أحدها، وجلست بينهم غريب اليد والوجه واللسان، أستمع للمتخسسين يشرحون ويحللون بكل ثقة، وكنت أتساءل حينها: أين أنت يا ابراهيم الكوني؟