Saturday, September 9, 2017




ملخص محاضرة قصيدة الغوص: قراءة تاريخية في معهد الدوحة 
  ٢٠١٧


فبراير، 2017

في هذه المحاضرة العامة بعنوان "مذكرات بحار: تأطير تاريخي لقصيدة الغوص بحثا عن اللؤلؤ في الخليج"، تتبع طارق الربعي، زميل أبحاث ما بعد الدكتوراه بمعهد الدوحة، تراث الغوص بحثا عن اللؤلؤ، انطلاقا من الوقوف على ثلاثة مستويات: المستوى العامي والمستوى الفصيح والمستوى العالمي. حيث ناقش ارتباط تاريخ المنطقة بالبحر، من خلال رحلتين أساسيتين: رحلة الغوص لأربعة أشهر، والسفر بغرض تجاري، مع استعراض مظاهرهما في قصيدة الغوص، مشيرا إلى أن أهم ثيمات تلك القصيدة هو الدَين، علما بأن اقتصاد الغوص قائم على الدين في سلسلة طويلة لتراكمات الدين، ومن ثمة كانت موضوعة حاضرة بقوة في الشعر. كما أشار إلى أن رحلات الغوص استمرت إلى حدود ثلاثينيات القرن العشرين، ليتم الانتقال بعدها إلى الرحلات التجارية باتجاه الساحل الإفريقي والهند. وقد تطرق الربعي إلى وصف رحلة الغوص في المستوى العامي، مستعرضا نماذج شعرية شملت قصيدة عبد الله الدويش، "الغنية بالإحالات الجغرافية، ورحلة سفر، والتبادل التجاري والثقافي"، وقصيدة عبد الله راشد العليوة التي يخاطب فيها الرفاق، ويعلن الحنين إلى البر"، ثم قصيدة سالم بن جمعان الحضينة، وقصيدة زيد الحرب التي تضمنت نقدا مباشرا للسلطة، وتسمية الأشياء بأسمائها.

كما أشار الربعي إلى أن المعاجم الخاصة بالألفاظ البحرية تكشف خليط اللهجات بالمحيط الهندي، وتأثرها بلغات مختلفة كالبرتغالية والفارسية والهندية، مستعرضا الملامح الرئيسة لقصيدة الغوص في هذا المستوى: وهي المعرفة البحرية، والنقد الصريح للسلطة، والوعي النقدي الشعبي، والافتخار بالذات، وإيراد أحداث تاريخية متفرقة.

بعد ذلك، انتقل الربعي إلى وصف رحلة الغوص في المستوى الفصيح، مستشهدا بقصيدة محمد الفايز: مذكرات بحار، ومشيرا إلى أن الفايز كان موظفا لم يركب البحر قط (رجل بيروقراطي)، وقد استعرض الربعي بعض المذكرات التي تصف كل منها حياة بحار، ملاحظا أن المذكرات تعد أول قصيدة تكتب بالفصحى عن الغوص. ووفقا للربعي، فإن القصيدة، التي نشرت عام 1964، تعد ملحمة أسطورية لترسيخ ذاكرة وطنية، بعد سنتين من استقلال الكويت وبعد كساد سوق اللؤلؤ والتحول إلى سوق النفط، والالتفات من الشرق إلى الغرب، حيث جرى هدم المدينة القديمة المرتبطة بالبحر، ومن ثم برزت الهواجس الضمنية في التراوح عند معالجة التراث ما بين الاحتفاء والاحتماء به. ولكن الربعي أضاف أن هناك ملمح لفراغ ثقافي يدفع باتجاه محاولة لإعادة تشكيل الذاكرة الجمعية الوطنية.

وعند الإشارة إلى تحديات الانتقال من العامي إلى الفصيح، أوضح الربعي أن نقل المصطلحات من العامية إلى الفصحى يعد أحد هذه التحديات، حيث أصبحت المصطلحات مفارقة للواقع، ومن ثم صارت تعرض في القصيدة بطريقة "متحفية"، إلى جانب ورود المصطلحات بكثافة خارج سياقها. وعن ملامح التحول، أشار الربعي إلى أسطرة صورة البحار "السندباد" (السندباد لم يرد في القصائد العامية) وإخراجه من التاريخ الفعلي، وتصفية التراث من التاريخ الهندي، والتأثر بالشعراء التموزيين من حيث كون الغواص رمزا للبعث. بعد ذلك، انتقل الربعي إلى وصف رحلة الغوص في المستوى العالمي، التي عدها "لحظة انكشاف أخرى أمام العالم"، حيث حل الدور على المنطقة لتثبت بدورها أننا عالميون، مستدركا أن التراث البحري لا يعطى شرعية إلا باعتراف القوي العالمية به، ومشيرا إلى حال مدينة الزبارة كمنطقة مغلقة مخصصة للنفوذ العالمي، وليست مفتوحة أمام السكان المحليين (خطأ في النقل: ما قلته أن المناطق التراثية عادة لا تسوق محلياً)، وبالتالي صارت اللؤلؤة التي كان البحار يقتلعها من أعماق البحر ديكورا للفرجة، معروضا للآخر (مرسى أربيا Porto Arabia)، ومختتما بالتناقض المتمثل في عملية دفن البحر وخلق أصل من عدم كرمز لعملية التحديث المعاصرة.


Link: https://www.dohainstitute.edu.qa/EN/Research/FR/RP/TCI/PA/Pages/A-Historical-Profile-of-Pearl-Diving-Poetry-in-the-Gulf.aspx

Thursday, August 31, 2017

متخسسو الخليج

متخسسو الخليج


قبل سنتين، وبعد أن أنهى الكاتب الليبي ابراهيم الكوني محاضرته في جامعة ساوس-لندن، قام أحد الحضور معلقاً بلغة عربية مكسرة وبنبرة واثقة جداً، بأن ثمة تشابه كبير بين ما طرحه الكوني في محاضرته وبين الكتاب الأخضر للقذافي، فقاطعه الكوني سائلاً: هل قرأت أي من أعمالي؟ فرد السائل: لا لم أقرأ لكنني أستنتجت ذلك مما طرحته اليوم، ثم أردف: أنا أساساً “متخسس” في الشؤون الليبية، وحينها انفجر الكوني: أنت متخسس! والله هذه كارثة ! واستمر الكوني في هجومه بلا هوادة حتى غضب المتخسس وخرج من القاعة.

ليلتها خرجت من المحاضرة نشوان، كان رده النيئ المباشر الوقح  بعيد عن الحصافة الأكاديمية الزائفة، التي لطالما منعتنا من تسمية الأشياء بمسمياتها عندما نواجه بوقاحة المتخسسين ذاتهم. فهذا الطالب المتخسس في الشؤون الليبية لا يمكن له أن يرى الكوني إلا كعينة انثروبولوجية، وليس مهماً له أن يقرأ أعمالاً روائية للكوني أو لأي شخص ليبي حتى يحكم عليه، فالاطارات المعرفية في ذهنه جاهزة، فبامكانه فهم الشعب الليبي كله من خلال قراءة الكتاب الأخضر.  فالكوني مهما حاول في تنظيراته الأدبية والفكرية فهو لأؤلئك المتخسسين مصدر معلومات ليس إلا، ولا يمكن أن يكون نداً ومصدراً للمعرفة.

والمتخسسون من جنس الطالب ذاك يتكاثرون بشكل أكبر في دراسات الخليج، فدراسات الخليج فيها وفرة مالية وهي من المناطق التي من الممكن عملياً أن يدرسها الباحث الغربي ويستقر فيها بعدما أصاب العواصم العربية الأخرى ما أصابها، ولا يخلو هذا الاهتمام المبالغ به في المنطقة من عقدة الخواجة التي ما زالت تؤثر على الكثير من الممولين والفاعلين في الخليج، ثم الأهم من ذلك وهو الافتراض المضمر في الكثير من البحوث التي تتناول الخليج على أنها منطقة سهلة الفهم والتشريح، فهؤلاء سنة وشيعة، وبدو وحضر، ومؤخراً أوغلوا في التشريح، فهناك من هو متخسس في الخليجيين من أصول أفريقية، والنجديين، العجم الشيعة، الهولة إلخ. وهي كلها محاولات حثيثة غير بريئة لرسم خارطة تكشف المنطقة بشكل كلي، والسؤال هو: تكشفه لمن ولأي سبب؟  وهناك تيار آخر يفترض أن الخليج كتلة رملية هلامية سيالة، خليط كوزموبوليتاني عجيب، ظاهرة تاريخية استثنائية طارئة، تتأثر بكل شيء ونادراً ما تؤثر على أحد. ولا أدل من ذلك إلا عدم جدية الكثير من الباحثين الذين لا يتقنون اللغة العربية قراءة وكتابة ولا يعتمدون إلا على المصادر الغربية أو المترجمة.

فأنتَ تجلس في هذه المؤتمرات المقامة في بريطانيا وأمريكا وتسمعهم يتحدثون عنا (أي المجتمع الخليجي)، وكأننا لسنا في الغرفة معهم، كأننا فصيل بشري نادر من زمن آخر،  ولا تخلو النبرة الأكاديمية من التندر على سذاجة المجتمعات التي ما زالت تتبنى الأطر الوطنية والقومية والدينية.  والأمثلة عديدة بعضها مباشر وآخر متستر بالديباجات الأكاديمية والكلام الكثير قليل البركة.  أذكر ورقة قدمت عام ٢٠١٤ لأحد الانثربولوجيين الأوربيين عن الهوية الوطنية الاماراتية، حكى لنا عن منهجيته ونظريته الفذة، فالرجل قام (بالملاحظة المرئية) لعينة من سكان امارة رأس الخيمة في يوم العيد الوطني، بعد يوم كامل من الملاحظة الانثروبولوجيا الدقيقة استخلص نظرية عبقرية: الهوية الوطنية في الإمارات تنقسم إلى ثلاث أبعاد: الشارع (حيث يحتفل الإمارتيون المواطنون)، الرصيف (حيث خليط بين الوافدين والمواطنين)، والحدائق العامة (الوافدون). ثم بكل ثقة يتبجح بنبرة الباحث المتأكد من نظريته.

ولا يزيد الطين بلة إلا جماعتنا، الذن متى ما أتاهم باحث -طبعاً أمريكي أو أوروبي- تجدهم يفتحون له الأراشيف ويفصحون له عن كل شيء، تفضل تخسس بنا كما تريد! وبعض الأكاديميين من المنطقة لو جلست معهم لا يردون عليك إلا باللغة الانكليزية (اللهجة الأمريكية بشكل خاص)، إذا حدثتهم بالعربية نفروا منك ومن فظاظتك (عربي كخ)، فاللغة التي تفرضها السوق الأكاديمية للنشر والتقدم الوظيفي تفرض أحياناً عليهم أن يقوموا بإعادة تدوير الأطر المعرفية التخفيضية ذاتها والثنائيات الكسولة، يتعاملون مع المنطقة بالروح ذاتها وكأنهم لا يسكنونها ولا يرتبطون بها مصلحياً ولا معنوياً. وفي السنوات الأخيرة تم استيراد تلك المؤتمرات المقامة في بريطانيا وأمريكا حول دراسات الخليج إلى المنطقة، وقبل فترة قصيرة حضرت أحدها، وجلست بينهم غريب اليد والوجه واللسان، أستمع للمتخسسين يشرحون ويحللون بكل ثقة، وكنت أتساءل حينها: أين أنت يا ابراهيم الكوني؟