الربعي... أبي
كلمة بمناسبة الذكرى العاشرة لوفاة د.أحمد الربعي التي أقيمت في البحرين
بسم الله الرحمن الرحيم
الشكر
السادة الحضور الكرام
نيابة عن أسرة المرحوم أحمد الربعي، أتقدم بجزيل الشكر والعرفان إلى لجنة أصدقاء أحمد الربعي على استضافة هذه الفعالية لإحياء الذكرى العاشرة لوفاة المرحوم أحمد الربعي في البحرين.
وكم هو لائق بمسيرة الربعي أن يتم الاحتفاء بذكراه خارج بلاده، في وطن خليجي واسع لطالما آمن به الربعي وعمل من أجله، فله في كل عاصمة خليجية أحباب مثلكم، تربطهم أخوة الهم المشترك والحلم الواحد بالإنسان والأوطان والمستقبل.
ولعل أغلب الحضور في هذه القاعة اليوم قد عاصر الربعي في مختلف مراحل حياته، فمنكم من عاصر الربعي السياسي، المناضل، الأكاديمي، الكاتب الصحفي، الصديق، الشخصية العامة، ولعل معرفتكم بهذه الجوانب من حياته تفوق معرفتي ، لذا فأنني أود الليلة أن أتحدث من زاوية مختلفة تخصني وحدي، وقد لا يعرفها أكثركم، وهي شهادة الابن لأبيه، وسيكون الحديث عن الربعي.. أبي.
وبما أن الليلة تجمع أصدقاءه ومحبيه في جو حميمي صادق، فاسمحوا لي بحديث حميمي وذي طابع شخصي أيضاً..
استثناءً
كان أبي -رحمه الله- استثنائياً، لا أعرف أباً غيره حتى أقارن، وربما يكون جميع الآباء استثنائيين في عيون أبنائهم، إلا أنه مع ممارسته للأبوة المتوقعة منه، كان باستطاعته أن يخلق من هذه الحياة العادية لحظات استثنائية لا تنسى. فان كنت سأرسم المشهد فانه ذاك الأب الجالس إلى طاولة الطعام بطاقيته لابساً "دشداشة البيت"، إلا أن هذا المشهد العادي جداً قد يتحول معه إلى مشهد استثنائي، فقد كانت سفرة الغداء ذاتها مليئة بالمفاجئات، فهذا رجل ضرير عماني يطرق الباب ليشاركنا الغداء دون موعد، وهؤلاء طلابه يكملون نقاشهم على طاولة الغداء، وجوه عديدة لأصدقاء وإعلاميين وطلبة ونواب ووزراء (كثير ممن أراهم اليوم) يملؤون المكان دائماً، ومن ذكريات سفرة الغداء أيضاً، يوم قرر أبي أن يقرأ لنا قصائد إيليا أبو ماضي قبل أن نبدأ بالأكل، يا أيها الشاكي وما بك داء،،، كيف تغدو اذ غدوت عليلاً " فنقوم نحن الأطفال بقبض هذه اللحظة الاستثنائية وتحويلها إلى ذكرى لا تنسى.
وفي طفولتي أيضاً أثناء فترة الغزو عندما كنا في الشارقة، أتذكر مشهداً آخر عندما تجمع بعض الأطفال الكويتيين عندنا لقضاء الليلة في شقتنا، فدخل أبي علينا تلك الليلة ونحن في الصالة نفترش الأرض، وبدأ بقص حكاية عجيبة لا تنسى عن تيس طائر في السماء يطوف على جميع دول العالم عاصمة عاصمة وبيده جهاز لاسلكي ويحدث زعماء هذه العواصم، فهذه تاتشر، وبوش وميتران وكل الأسماء التي اعتدنا سماعها في الأخبار، والتيس الطائر يمر فوقهم ويمأمئ.
وفي رحلة البر التي قد تبدو عادية أيضاً، كان أبي يمشي يجرجر عصاة خلفه، فيتقمص فجأة ودون مقدمات دور فيلسوف قديم وبدأ برسم لنا على الرمل درساً -هذه مبادئ المنطق الثلاث- وكنا أطفالاً نستمع إليه ثم نمحو الدرس بأرجلنا ونمضي..
وفي مشهد آخر، حين كنا نقوم برحلات طويلة صيفاً في الولايات المتحدة الأمريكية كان أبي يقوم بسكتشاته المضحكة في الطريق أشهرها تقليده للكوميديان عبدالعزيز الهزاع بشخصية بوحديجان وأم حديجان ورحلتهما إلى بيروت. فهذا المشوار لا يمكن أن يكون عادياً معه.
أما اسلوبه في التربية، فقد كان يحرص على العلم، يعتبره "أفضل استثمار" كما كان يردد، الا انه -على عكس الكثير من الآباء- لم يلح ولم يطلب منا التفوق الدراسي أبداً، كان يريدنا ناجحين بالمعنى الأعم، وكان يردد علينا عبارة دائما: "لا تخلوني أركض وراكم "، كان جل ما يخشاه هو أن نعتمد على الآخرين في حياتنا ومعاشنا، //لا تسلم رقبتك لأحد// خلك طير حر.
لم يختر لنا حياتنا، لم يفرض علينا مجالاً معيناً، ولا حتى رأياً معيناً، بل كنت أحياناً أطرح عليه بعض الأسئلة السياسية أو الوجودية فيستخدم معي أسلوب الأستاذ الجامعي فلا أعرف رأييه في مسألة إلا كما يعرفه غيري عبر كتاباته ولقاءاته.
ومع مشاغله الكثيرة إلا أننا لم نحس أبداً بابتعاده أو انشغاله عنا، وذلك بسبب وجود شخص مثل أمي لمياء العبدالكريم، فهي دون شك- السبب الأول لنجاح أبي معنا، فالفضل كل الفضل لها أطال الله في عمرها.
في غرفة الاميري
وحتى في آخر مراحل حياته حينما اشتد عليه المرض تعامل معه ومعنا باستثنائية، في اليوم الثاني من اكتشافه للورم في رأسه، كنا مجتمعين في غرفة المستشفى الأميري عندما قال لنا بما معناه: عشت 57 سنة من حياتي بالكامل الحمدلله دون حسافات وندامات، وكان يردد لأصحابه الزائرين "عمر الشقي بقي"، كان بعض الزوار يدخل الغرفة باكياً فيخرج بعد لقائه مليئاً بالحياة، وكنا كذلك كأسرة كلما لازمناه ازددنا حياة وأملاً ولا أبالغ إن قلت بأننا عشنا أكثر مراحل حياتنا سعادة رغم المعاناة. كان يتحدث عن مشاريع كتابية وترميمات منزلية رغم علمنا جميعاً بأن المرض لن يمهله، لكنه لم ينظر إلا إلى الأمام. قد طلب مني أيضاً يوماً أن أقوم بقراءة كتاب الأيام لطه حسين له (ذلك الكتاب الذي قرأه في طفولته) وقد توفاه الله قبل إتمام الكتاب، فأتممته وحدي وكأنه يعلمني درساً في الحياة، انظر إلى الأمام، فالحياة تمضي ..
وفي تلك الأيام أيضاً حرص على زيارة أكبر عدد من الأصدقاء وزملاء الدراسة الجامعية وأصدقائه في جمعية المكفوفين وجمعيات النفع العام الأخرى والعمل النقابي والسياسي والدواوين بشكل عام، كان كمن يود أن يودعَ الحياة وأصدقاء الرحلة بنفس راضية،
ملاحظات عامة
...وربما الأكثر استثنائية في سيرة الربعي (أبي).. هو أنني عشت قربه ستة وعشرين سنة دون أن أُجرحَ منه مرة واحدة، أحاول أن أستذكر مرة واحدة كان فيها قاسياً معنا جسدياً أو معنوياً فلا أتذكر إلا المحبة الصرفة، محبة لا شك فيها تتأكد فعلاً وقولاً، حبل ممدود أبداً لم ينقطع حتى بعد فقده، محبة تكفينا كأسرة لسنينَ قادمة وهذه المحبة هي ذاتها التي تحضر معنا الليلة وتجمع نفوساً نبيلة في يوم إحياء ذكراه العاشرة..
ولكم جزيل الشكر والامتنان
طارق أحمد الربعي
١٤.٣.٢٠١٩